تواطؤ أمريكي في إبادة غزة- الدعم السياسي والعسكري والمسؤولية القانونية

المؤلف: د. معتز الخطيب11.19.2025
تواطؤ أمريكي في إبادة غزة- الدعم السياسي والعسكري والمسؤولية القانونية

في مقالات منصرمة، تطرقت إلى جملة من المفاهيم الأخلاقية والقانونية التي شاعت وتداولها الناس خلال العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة. لقد كانت هذه المفاهيم جزءًا لا يتجزأ من الخطاب الحربي المضلل، الذي سعى جاهداً لابتداع مسوغات سياسية وأخلاقية لهذا العدوان المتواصل، وذلك على الرغم من الكلفة الإنسانية الهائلة والفادحة، والتي أدت إلى انحدارها إلى مصاف جرائم الإبادة الجماعية، هذا ما جاء في صلب قرار محكمة العدل الدولية الأخير، مع الأسف لم تتحل المحكمة بالشجاعة الكافية للإفصاح عن ذلك صراحةً.

وإذا كان هذا القرار بمثابة نتاج لدعوى قضائية رفعتها دولة جنوب أفريقيا ضد الممارسات العسكرية الإسرائيلية، فإننا نشهد تحركًا قانونيًا آخر يتمثل في دعوى مرفوعة ضد الرئيس الأمريكي جو بايدن، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع لويد أوستن. هذه الدعوى، مدعومة من مركز الحقوق الدستورية في الولايات المتحدة، تنظر فيها الآن محكمة فدرالية في ولاية كاليفورنيا. جوهر هذه الدعوى يتهم المسؤولين الثلاثة بالتواطؤ في جرائم الإبادة التي تُرتكب بحق أهالي قطاع غزة. وفي حقيقة الأمر، يستند هذا التواطؤ إلى أساس قانوني وأخلاقي راسخ، وسأسعى لإيضاحه من خلال ثلاثة محاور رئيسية:

  • أولاً: الفعل السياسي
  • ثانياً: الفعل العسكري
  • ثالثاً: المسؤولية القانونية والأخلاقية المترتبة على الفعلين السابقين.

أولاً: من جهة الفعل السياسي

لقد قدمت إدارة الرئيس بايدن دعمًا سياسيًا مطلقًا وبلا قيود لإسرائيل. هذا الدعم تجلى بوضوح سواء في احتلالها وحصارها لقطاع غزة، أو في العدوان المستمر على القطاع. هذا الدعم السياسي اللامحدود خلق ظروفًا مواتية ومهيئة لارتكاب جرائم الإبادة الجماعية التي تقترفها إسرائيل. وإذا انتقلنا إلى الفعل العسكري، نجد أن إدارة بايدن قد قامت بتزويد إسرائيل بدعم عسكري سخي، بل وبشكل استثنائي، متجاوزة بذلك أي رقابة أو تقييد.

وبالنظر إلى المسؤولية القانونية والأخلاقية، نجد أن هذا التسليح السخي، الذي يأتي في خضم الحرب ودعمًا لها، يُعد انتهاكًا صريحًا لاتفاقية منع الإبادة الجماعية التي تم توقيعها في عام 1948. فمن صميم مسؤوليات الولايات المتحدة الأمريكية منع الإبادة الجماعية، وذلك بموجب القوانين والأعراف الدولية. بالإضافة إلى ذلك، فإن فعل التسليح ذاته، في زمن الحرب، يُعد فعلًا تشاركيًا، لأنه يتم تقديمه لدعم طرف محدد وواضح، وبدون أي شروط أو قيود تذكر. ومن خلال الجمع بين هذين الأمرين (الفعل السياسي والفعل العسكري)، نخلص إلى أن المسؤولين الثلاثة المشمولين بالقضية لم يتقاعسوا عن تنفيذ التزاماتهم القانونية والأخلاقية فحسب، بل ساهموا أيضًا وبشكل فعال في تسهيل الإبادة الجماعية ووقوعها.

لقد صرح مسؤولون أمريكيون بأنه تم تزويد إسرائيل بأنواع مختلفة من الأسلحة الفتاكة، بما فيها قنابل ذات رؤوس حربية قادرة على اختراق التحصينات الشديدة، تُعرف باسم "بي إل يو-109"، وهي مصممة خصيصًا لاختراق الخرسانة المسلحة قبل أن تنفجر محدثة دماراً شاملاً، وهذا يوضح بجلاء قدرتها التدميرية الهائلة.

ثانياً: الشق العسكري

يكتسب الشق العسكري أهمية قصوى، سواء من الناحية القانونية أو الأخلاقية، لأنه فعل راسخ وثابت من حيث الوقوع، وظاهر للعيان وقابل للتحقق منه، وصريح بحيث يفصح عن النوايا والمقاصد الخفية لدرجة أنه يقوم مقامها. فالنوايا الخفية، وإن كانت مستترة، يقوم مقامها صراحة الفعل وتوجهه الكامل للدلالة على مقاصد الفاعل، الأمر الذي يغني عن البحث المضني في مسوغات ونوايا الفاعلين. ومن شأن هذه الخصائص مجتمعة أن تكشف هشاشة الادعاءات والتصريحات السياسية الأمريكية، التي حاولت جاهدة، طيلة فترة العدوان المستمر، أن تتجنب المساءلة القانونية والانتقادات السياسية اللاذعة. وقد تم ذلك تارةً من خلال تسويق مسوغات واهية لجرائم إسرائيل في الحرب، مثل الادعاء بأن إسرائيل لا تستهدف المدنيين، أو أن لها الحق في الدفاع عن النفس، أو أنه لا يوجد دليل قاطع على وقوع إبادة جماعية، وغير ذلك من الادعاءات الباطلة. وتارة أخرى، من خلال الدعوة المبهمة والمتكررة لحكومة نتنياهو إلى الالتزام بالقانون الدولي الإنساني، وفي الوقت نفسه دعمها عسكريًا بلا قيد أو شرط. وتارة ثالثة، من خلال مطالبة إسرائيل بـ "تقليل الخسائر البشرية" في صفوف المدنيين.

ثالثا: المسؤولية الاخلاقية والقانونية

إذا قمنا بمقارنة الخطاب السياسي الرسمي الأمريكي حول العدوان، منذ بدايته وحتى الآن، مع الفعلين السياسي والعسكري الأمريكيين، فسنصل إلى نتيجة لا لبس فيها، وهي أن إدارة بايدن قد ساهمت بشكل مباشر وفعال في الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني. فقد عمدت إلى تعطيل أي محاولة جادة لوقف العدوان في مجلس الأمن الدولي من جهة، وقامت بتزويد إسرائيل بأطنان من الأسلحة الفتاكة خلال العدوان من جهة أخرى، ودافعت ببسالة عن أداء الجيش الإسرائيلي، وقامت بتبرير أفعاله المشينة باستمرار طيلة فترة العدوان من جهة ثالثة. صحيح أن الفعل السياسي هو المؤسس للفعل العسكري، وأن الفعل العسكري خادم للفعل السياسي، إلا أن الفعل العسكري يتسم بسمات أساسية تجعله أبلغ تأثيرًا وأصرح في تحديد المسؤولية القانونية والأخلاقية، ويمكن تلخيص هذه السمات فيما يلي:

  • أنه يمكن ضبطه وقياسه بدقة.
  • وأنه صريح وواضح في ترجمة مقاصد ونوايا الفاعلين السياسيين.
  • وأن ضرره مباشر وحاسم لا يحتمل التأويل.

تساعدنا هذه السمات الثلاث على تقويم التسليح الأمريكي لإسرائيل بوجه عام، وفي العدوان المستمر على غزة بوجه خاص. ويمكن أن نقوم بهذا التقويم الأخلاقي والقانوني من خلال ثلاث زوايا مختلفة:

الزاوية الأولى: فعل التسليح نفسه

فالتسليح يقع في سياق خاص ومحدد، وهو "زمن الحرب"، وبقصد خاص وواضح، وهو "تحقيق الأهداف السياسية والعسكرية للحرب". لسنا، إذن، أمام فعل تجاري بحت القصد منه التربح المادي، وإن كان ذلك أيضًا مدانًا أخلاقيًا، وإنما نحن أمام فعل مقصودُه الدعم العسكري الصريح للحرب. ومن اللافت للنظر أن فقهاء المسلمين قد ناقشوا تاريخيًا مسألتين جوهريتين تتصلان بفعل التسليح:

  • المسألة الأولى: حكم بيع السلاح في زمن الحرب (وفي زمن الفتنة والبغي أيضًا).
  • المسألة الثانية: حكم بيع ما يُتَّخذ منه السلاح، كالحديد والمعادن ونحوه.

وقد أجمع جمهور الفقهاء في المسألتين على التحريم القاطع؛ فيَحرم بيع السلاح أو ما يُتَّخَذ منه السلاح لفئات معينة من الناس، تشمل أهل الحرب والبغاة وأهل الفتنة. وهذا يعني أن تحريم هذا الفعل عام يشمل بيع السلاح للمسلمين ولغير المسلمين على حد سواء، لأن علة التحريم هي سد الذريعة المؤدية إلى القتل وإزهاق الأرواح. فالسلاح هو آلة القتل والهلاك، وبيعُه في زمن الحرب أو الفتنة أو البغي هو من أقوى الدلائل على استعماله لأجل القتل، وفيه تقوية لأحد الطرفين المتحاربين، أو أنه يبعث الطرفين على شن الحروب ومواصلة القتال. فهذا الفعل يُقصد به الحرام، وكل تصرف يُفضي إلى الحرام فهو حرام بلا أدنى شك.

ويمكن لنا أن نميز هنا بين مستويين مختلفين من التحريم. فنقاش الفقهاء الكلاسيكيين كان يتحرك في إطار بيع السلاح للاتجار به والتربح منه، أما بيع السلاح بغرض دعم حرب غير مشروعة فهو مستوى أشد في التحريم وأكثر وضوحًا في الإثم، كما هو الحال في العدوان على غزة. ولا شك أن التسليح في كلا المستويين هو فعل محرم، لأن قصد البائع لا يسوغ القصد إلى الاتجار ولا الدعم العسكري للحرب، لأن التسليح يعزز فعل القتل، ومن ثم عُلّق التحريم بوصفين منضبطين هما: بيع آلة القتل وفي زمن الحرب.

هذا التحريم يعزز فكرة عدم المشاركة في القتل أو عدم المساهمة في تأجيج نار الحرب. ويشبه هذا المنظور الفقهي الأخلاقي منظور منظمة العفو الدولية، التي حذرت في تقرير لها من أن "الولايات المتحدة قد تُعتَبر مشاركة في المسؤولية عن الانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني الدولي التي ترتكبها إسرائيل بأسلحة زودتها بها، حيث يقع على عاتق جميع الدول واجب عدم المساهمة عمدًا في الأعمال غير المشروعة دوليًا من قبل دول أخرى". وهذا يؤكد الفكرة القائلة بأن التسليح في مثل هذه الحالة هو مساهمة مباشرة في الحرب.

الجهة الثانية: نوع الأسلحة المبيعة والمستخدمة

ثمة التزام أمريكي راسخ وثابت بتسليح إسرائيل منذ سنة 1948، وقد تعزز هذا الالتزام بشكل خاص منذ سبعينيات القرن الماضي، وذلك بهدف ضمان تفوقها العسكري النوعي على أعدائها المحتملين في المنطقة. وفي الفترة الواقعة بين عامي 1948 ومطلع عام 2023، قدمت الولايات المتحدة لإسرائيل مساعدات عسكرية واقتصادية تقدر قيمتها بنحو 158.66 مليار دولار. وإذا أُضيف إلى ذلك معدل التضخم، فسيتضاعف الرقم ليصل إلى ما يقارب 260 مليار دولار، وذلك بحسب دراسة صدرت عن مركز خدمة أبحاث الكونغرس. ولكن دعونا نتمعن ونتفحص مسألة التسليح في حالة العدوان المستمر على غزة تحديدًا. فقد قامت حكومة بايدن بتزويد إسرائيل بشحنات أسلحة طارئة مرتين خلال شهر واحد فقط (في شهر ديسمبر/كانون الأول 2023)، متجاوزة بذلك موافقة الكونغرس، بحجة وجود "حالة طارئة تستوجب موافقة فورية على نقل الأسلحة"، كما جاء في بيان وزارة الخارجية الأمريكية في شهر ديسمبر الماضي.

ويمكن أن نميز في هذا التسليح الأمريكي أثناء العدوان على غزة بين نوعين رئيسيين من الأسلحة: أسلحة ذكية يمكن توجيهها بدقة متناهية لإصابة الهدف المحدد، وأسلحة أخرى غبية لا تحتوي على أنظمة توجيه دقيقة، وبالتالي تكون عشوائية وغير دقيقة في إصابة الهدف. فعلى مستوى الأسلحة الذكية، أوضح مسؤولون أمريكيون لبعض الصحف الأمريكية أنه تم تزويد إسرائيل بأنواع مختلفة من الأسلحة، وقد تم تفصيل هذه الأنواع في تقارير متنوعة نشرتها بعض المواقع الإخبارية، من بينها قنابل ذات رؤوس حربية خارقة للتحصينات (تُعرف باسم "بي إل يو-109")، وهي مصممة خصيصًا لاختراق الخرسانة المسلحة قبل أن تنفجر، محدثة دمارًا شاملاً، وهذا يوضح بجلاء قدرتها التدميرية الهائلة. وعلى مستوى الأسلحة غير الموجهة (أو الغبية)، فقد أعادت أمريكا بعض الأسلحة الغبية إلى إسرائيل لاستخدامها في غزة، بعد أن كانت قد سحبتها من إسرائيل في وقت سابق لدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، وهذه الأسلحة هي في الأصل جزء من المخزون الأمريكي الاحتياطي العسكري، ويتضمن هذا المخزون 57 ألف قذيفة (155مم)، بحسب ما صرح به مسؤولون أمريكيون لوكالة بلومبرغ الإخبارية.

وعلى الرغم من أن كلا النوعين من الأسلحة شديد التدمير، إلا أن الأسلحة الغبية أشد خطرًا وفتكًا، لأنها تثبت مقولة "القصف العشوائي" الذي ضاعف أعداد الضحايا من المدنيين الأبرياء، وهو الأمر الذي أقرّ به الرئيس بايدين بنفسه حين قال في تصريح له مؤخرًا إن إسرائيل قامت بـ "قصف عشوائي" في قطاع غزة. وكان نحو 30 منظمة إغاثة دولية قد أرسلت خطابًا عاجلًا إلى وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، تحثه فيه على عدم إرسال قذائف عيار 155 مم إلى إسرائيل تحديدًا، لأن فيها خطورة بالغة تتمثل في أنها "غير موجهة"، وبالتالي فإن هامش الخطأ فيها كبير جدًا.

وقد أشارت هذه المنظمات الإغاثية إلى أن هذه القذائف "تسقط عادةً على بعد 25 مترًا من الهدف المقصود"، وهذا يجعلها في غاية الخطورة والتهديد في قطاع غزة المكتظ بالسكان، والذي يعتبر واحدًا من أكثر مناطق العالم ازدحامًا بالسكان. ومما يزيد الأمر تأكيدًا أن تقريرًا صادرًا عن الاستخبارات الأمريكية قد أكد أن ما بين 40 و 45 بالمئة من القنابل جو-أرض التي استخدمتها إسرائيل في غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول (ومجموعها 29 ألف قنبلة) كانت "قنابل غبية". وكانت شبكة CNN الإخبارية الأمريكية قد نشرت فحوى هذا التقرير المسرب، ونقلت عن جيمس ستافريديز (وهو مسؤول عسكري أمريكي سابق) أن المخزون الاحتياطي العسكري الأمريكي "مليء بما يسمى ذخيرة غبية مثل القذائف عيار 155 مم، والآلاف من القنابل الحديدية التي يتم ببساطة إسقاطها من الطائرة ويُترك الباقي لقوة الجاذبية الأرضية!". يضاف إلى ذلك أن نير دينار، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، قد رفض رفضًا قاطعًا، في حديثه مع شبكة CNN، الحديث عن "نوع القنابل المستخدمة" في غزة.

الجهة الثالثة: عدم إدانة أمريكا للتطرف الإسرائيلي

توضح المعطيات السابقة جملة من الحقائق الجلية، والتي من أبرزها حجم المسؤولية الأمريكية الهائلة (سواء القانونية أم الأخلاقية) عن الإبادة الجماعية التي تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من جهة، وتقوض هذه المعطيات الادعاءات الزائفة التي تروج لها إسرائيل، والتي مفادها أنها تحاول جاهدة تقليل الخسائر في صفوف المدنيين من جهة ثانية. وتجعل هذه المعطيات أيضًا ما يجري في غزة ترجمة فعلية على أرض الواقع للتصريحات الإسرائيلية (سواء السياسية الرسمية أم الدينية أو الإعلامية) التي تتحدث عن إبادة أهل غزة بصيغ وأساليب مختلفة، بدءًا من استعادة خطاب "العماليق" في العهد القديم، الذي ينص صراحة على الإبادة الفعلية للبشر والحيوانات على حد سواء (وقد ناقشت هذا الموضوع بالتفصيل في مقال سابق)، مرورًا بالدعوات العلنية إلى إلقاء قنبلة نووية تدميرية على قطاع غزة، ورفض التمييز بشكل قاطع بين المدني والعسكري (وقد ناقشت هذا الموضوع أيضًا في مقال سابق)، وصولًا إلى الانتهاكات الإنسانية المختلفة، وقصف المنشآت المدنية والأممية، وفرض الحصار الخانق والتجويع القاتل على السكان. ومع ذلك كله، لم نجد أي إدانة أمريكية واضحة وصريحة لأي من هذه الممارسات الوحشية، على الرغم من ادعاء أمريكا المستمر، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، أنها تحارب الإرهاب والتطرف بشتى الطرق والوسائل. والواقع المرير هو أنها تحارب فقط التطرف الذي يهدد مصالحها بشكل مباشر، أي أننا أمام مفهوم سياسي للإرهاب وليس مفهومًا قانونيًا أو أخلاقيًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة